2011/11/27

بحصة في حمص : تحيّة و قهوة حمصيّة

تسمع الكثير عن حمص مما يكفي لأن تتخيّل أنّك ستدخل إلى مدينة خرابٍ وأشباحٍ ونحيب، أو أنّك سترى أناساً حزينةً يائسةً جريحة، لكنّها يا صديقي ليست كذلك ... المدينة لا تزال صامدةً قويّة تضعضعت قليلاً هنا وهناك فقط لتذكّرك بالليلة الماضية ... سكّانها طيور فينيق نفضوا غبار القصف الليلي وخرجوا ليبعثوا الحياة للمدينة ولنا من جديد...

أَثارَ التجوّل في شوارع حمص أسئلة كثيرة في أذهاننا .... تجمّعنا حول صديقنا الحمصي في أحد الشوارع نحتسي قهوةَ طريقٍ دافئة، وبدأت الأسئلة تنهال عليه منّا بعد صمتٍ طويل ... سألناه عن كلّ الأخبار التي سمعناها عن حمص، عن اعتصام حمص ، عن مشاهد القصف والقتل والتدمير، وعن أعراس الشهادة والحريّة اليومية ... قصّ علينا كلّ شيء ... أخبرنا عن أنواع الأسلحة التي استخدمت في حمص عن الرشّاشات والدبّابات، المدفعيّات والطائرات بلا طيّار، وعن أنواع الغاز التي استُعملت ضدّ المدنيين...
أحصى لنا أعداد الشهداء هنا وهناك وقصّ علينا قصص أسماءٍ انتشرت على الانترنت واكتشفنا أننا لا نعرف إلا اليسير من هذه القصص ..كثيرةٌ هي القصص التي لم أستطعْ أو لم أردْ تصديقها ... وأكثرُ هي القصصُ التي لم تقصّ بعد أو حتى لن تقصّ ابداً...

حان موعد الغداء واتجهنا إلى منزل أقارب صديقنا الحمصي لاصطحاب زوجته من هناك، توقّفنا بعدها لاحضار الطعام، جلستُ في السيارة مع زوجة صديقنا، قصّت علي قصّة ابن أختها التي كانت في زيارتها توّاً، خُطِف منذ عدّة أيّام خلال عمله كسائق سيارة أجرة ، وجدوا السيارة البارحة والشّاب لا يزال مفقوداً أنهت السيدة القصة .. أخفيتُ دموعي بينما كانت تداعب ابنها الصغير ذو الثلاث أعوام وتقنعه بأن يغني لي أغاني عبد الباسط ساروت ...

وصلنا إلى الحي كانت السيّدة لا تزال تقصّ علي قصص الخطف والخوف ... أبدَت أسفها كيف أنّ الناس تمارس حياتها خارج أسوار حمص باعتيادية ، بينما هي لا تستطيع إرسال ابنيها إلى المدرسة خوفاً من ألاّ يعودوا يوماً، قالت لي في حمص لا يمرّ يوم علينا دون أن نسمع إطلاق رصاص أو قصة اختفاء أو استشهاد أو دون أن نشهد مداهمة واعتقالات ...

حدّثتنا السيّدة أنّ أقاربها كانوا في زيارتها الأسبوع الماضي لكنّ شيئاً لم يحصل في حيّهم،  ولا حتى إطلاق رصاص ، فانزعجت هي وقالت في سرّها : " انخزينا ... هلئ بيئولوا ما في عنا شي بحمص !!! "

ما إن نزلنا من السيّارة حتّى سمعنا صوت إطلاق مشط رصاص متواصل ... ابتسمت السيّدة وانفرجت أساريرها ... ها قد حيّتنا حمص لتوّها...

تناولنا الغداء وتحوّمنا حول الناشط الحمصي ثانية ليقصّ علينا قصصاً أخرى ... كان يسرد القصص ويرى الذهول في عينينيا فيبادر هو أو أحد أبنائه بترديد شعارٍ باللهجة الحومصية  ليلطّف الجو ويخفّف من صمتنا وذهولنا ... كان ما إن ينتهي من قصّة أبكتنا حتى يبتسم ملئ شفتيه  ويبدأ قصّة أخرى، و من جديد يجتهد بأن يرمي دعابة أو هتاف بين قصّة رصاصة وأخرى .. من الصعب جداً تفسير نفسية صديقنا الحمصي يتقافز مبتسماً بين ذكريات الموت ... و بالنسبة له كلّ يومٍ جديدٍ يعيشه انتصار، كلّ مظاهرة يخرجها انتصار ، وكلّ نعش يلفّه حول صديقه الشهيد انتصار ..

عَلَتْ أصوات المآذن تدعو لصلاة العشاء وبدأ صديقنا الحمصي يجري الاتصالات ليعرف أين سنتظاهر الليلة ، وبعد أخذٍ و رد قرّر أن نتظاهر في نفس حيّه في الخالديّة، لأن أوصال حمص مقطّعة بحواجز مزعجة ، وسيكون من الصعب علينا نحن (الشوام) أن نجتازها... أشار لابنه ذو السبعة عشر ربيعاً أن يصحبنا وأصرّت زوجته على مرافقتنا للبقاء مع الفتيات، خرجنا من المنزل وكان الحمصي الابن قد بدأ بترنيم أناشيد الثورة وترديد الهتافات متمنياً أن يأتي عبد الباسط ساروت ليحيي الحفلة في ساحة الخالدية...

2011/11/16

بحصة في حمص : حمص المدينة "المنكوبة"

قبل دخولنا إلى حمص حمل أحد الأصدقاء كاميرته وبدأ بالتصوير، وإذ بنا نتفاجئ بأول الحواجز عند مدخل حمص، سارع صديقي إلى حذف التصوير وإطفاء الموبايل فقد كنّا خائفين وحجّتنا في الدخول واهية جداً، لوّح لنا العنصر بالدخول دون أن يطلب الهويات، كان الحاجز عادياً جداً عزوتُ السبب إلى العيد!


دخلنا المدينة وتواصلنا مع الرجل الذي تبّرع باستقبالنا خلال الزيارة والتقينا به في أحد شوارع المدينة  نظر الى السيارة وقال "خلّو الصبايا بالسيارة والشباب تعالوا معي"، أبديتُ أنا ورفيقتي انزعاجاً كبيراً، جلسنا ننتظر ونراقبهم من بعيد ، توجّهوا نحو أحد الجوامع غابوا قليلا ثم خرجوا يتجادلون مع الرجل وعادوا إلينا، أخبرنا صديقنا أنّ في الجامع عزاءٌ لأحد الفتيات قتلت على يد رجال النظام وأخوها في الداخل يتوعّد بتفجير القصر الجمهوري أمام العالم أجمع !!! نعته صديقي بالمجنون !!!

عرض علينا الرجل الحمصي جولة في المدينة، انقسمنا الى قسمين قسم بقي في سيارتي والقسم الاخرفي سيارة الرجل كان أصدقائنا في السيارة الأخرى ذوي الحظ الأوفر فالرجل يخبرهم عن قصص كلّ شارع نمرّ به أمّا نحن نكتفي بملاحقنهم والتفرّج بصمت...
كانت الدولة غائبة تماماً عن المدينة لا شرطة مدنيّة ولا شرطة مرور ولا تقيّد حتى بإشارات المرور،  القمامة اغرقت الطرقات في كل زاوية وشارع، اللوحات الإعلانيّة مكسّرة وممزّقة وتستطيع أن تلحظ هنا وهناك في حائط ما آثاراً لرصاصة طائشة أو رصاصتين..
الوجوه بلا تعبير تركوا التعبير للجدران التي كانت مليئة بكتاباتٍ مُحيت عدّة مرّات لكنّها عادت لتفرض نفسها رافضةً للنظام والرئيس ومستهزئة ب"الرواية الرسمية"، كما رُسم علم الاستقلال كبيراً واضحاً على أكثر من حائط وعلى أبواب المدارس ..

وصلنا الى حاجز آخر كان من الواضح أنّ هذا الحاجز أهمّ من الحاجز السابق فالعناصر أكثر والتفتيش أدق، أوقفوا السيارة فتّشوا كل شيء حتّى أبواب السيارة وأخذوا الهويّات الشخصية...
كان مرافقنا الرجل الحمصي  قد أنهى التفتيش حين حوّل العنصر الذي على الحاجز هوياتنا الى باص كبير يقف على طرف الحاجز من الواضح أنّ من به أعلى رتبة من العناصر الآخرين، توجّهنا الى الباص خائفين نوعا كنّا نعتقد أن في الباص وحدة مخابراتيّة فيها كمبيوتر (مثلاً) وعليه أسماء وبيانات وما إلى ذلك  لكن الخوف زال عندما وبكل سذاجة نظر الضابط الى الهويات ثم حدق في وجوهنا وأعاد الهويّات وأشار لنا بالتحرّك.
لا جهاز كمبيوتر ولا قائمة سوداء ولا غرفة مخابراتيّة فقط سليقة الضابط اكدت له اننا لسنا ممن يبحث عنهم.

في هذه الأثناء غاب الرجل الحمصي مع صديقينا التفتنا يميناً شمالاً ولم نجده فقرّرنا أن نتابع طريقنا حتى لا نثير الشك، خطوات بعد الحاجز وحوالي العشرين عنصر موجهين أسلحتهم نحونا وصلنا الى دوار كبير وشارع ذو اتجاهين مشي الدولاب لخطوات وإذ به يتأرجح بنا. كنا نمشي على بساط من الطلقات الفارغة وعلى الأطراف آثار دبابة خرّبت زفت الطريق...
على يميننا بناء تداعت زاويته تثبت لك خطوات أخرى أنّه ليس الوحيد "المنكوب" في الشارع، أبواب البيوت مليئة بثقوب الرصاص، شرفات المباني مصدّعة وثقوبٌ كبيرة في كلّ واجهات المحلّات المعدنيّة ومن بين الثقوب عيون ترصدنا باستغراب شديد فنشعر أنّنا  الأحياء الوحيدين في شارع موت.
وصلنا إلى نهاية الشارع فوجدنا دبابة إلى اليمين وجهت فوّهتها إلى الحي وتأهّب الجندي بجانبها عند اقترابنا، هنا تأكدنا أنّه لا بدّ من مكالمة صاحبنا الحمصي لنعرف أين هو أو أين نحن ! كنا نخبره أنّنا وصلنا إلى مقبرة لم يتعرّف عليها حين انقطع الاتصال فجأة ليتركنا مذهولين، عندها قررنا أن نعود أدراجنا من نفس الطريق فما بعد المقبرة طريق ترابي أشبه بطريق إلى خراب..

تراجعنا وفوّهة الدبّابة ترقبنا كما العيون المختبئة ، استطعنا مكالمة الرجل الحمصي بعد عودة الاتصالات، عندما التقينا سألناه عن تفسيرٍ لما شاهدناه أخبرنا أنّ هذا الشارع أقل "نكبة" من شوارع غيره في حمص كان اسم الشارع جورة العرايس ....


2011/11/14

بحصة في حمص ... سلسة متواضعة تنقل بعضاً مما رأيت وسمعت في حمص

أستيقظ أوّل أيّام عيد الأضحى - ككلّ صباح - أعدّ ضحايا الليلة السابقة وأحاول تنبّؤ الرقم لليوم، أرفض تهاني العيد بغضب من أصدقائي..  أيّ عيدٍ هذا نستقبله بالدماء ودموع الثكالى.

تحاول شوارع دمشق التظاهر منذ الصباح لكن صوت المراجيح كان أعلى، لا بأس... على الإنسان أن يعيش مهما كانت الظروف وعلى الثورة ألاّ تعيق الحياة ... هكذا حاولت تبرير ضحكات الأطفال ومظاهر العيد حولي.

أسمع الأنباء من حمص .. تذكرت شاباً تعرّفت عليه مؤخراً فلسطينياً مثلي أجّل حلمه الفلسطيني وانضمّ إلى ركب الثورة.. كان قد أخبرنا يوماً أنه ذهب إلى حمص، تظاهر هناك وعاد منتشياً، قال يومها : " من لم يتظاهر في حمص لم يتظاهر أبداً "

لم لا ... إنّه العيد لاعمل لديّ أو ارتباط ومن السهل جداً الدخول إلى حمص بحجّة " العيد " فلنذهب إلى حمص إذاً...

أخبرتُ صديقي فأبدى استعداده في أيّ لحظة، وطلب منّي أن أنتظر ريثما يتواصل مع شخصٍ من حمص يؤمّن لنا دخولنا ومكوثنا هناك ....

عدتُ إلى المنزل مساءً، فتحتُ التلفاز: " الهيئة العامة للثورة تعلن حمص مدينة منكوبة" ويتلوها صوت قصفٍ مدمّر ..
فتحت حسابي على التويتر فتوالت الأخبار حول هول هذا القصف ... خبراً بعد خبر :

  •  أنباء متواترة عن قصف شديد لم يسمعه أهالي حمص من قبل، لدرجة أنه ينبه أجهزة إنذار السيارات الواقفة على بعد 2 كلم من حي بابا عمرو #Syria #SOS
  • #Syria #Homs أصوات الانفجارات مستمرة بنايتنا عم ترقص وقب دقائق اتصل صديق من منطقة بستان الديوان ليخبرني بانفجار قنبلة بالقرب من غرفته
  • أصوات الانفجارات القادمة من بابا عمرو مرعبة.. مرعبة... . الصوت مسموع بمعظم الأحياء. البيوت عم تهتز من أصوات الانفجارات.. #HOMS
مرعبةٌ كانت هي الأخبار بالنسبة لشخصٍ ينوي الذهاب إلى حمص بعد ساعات!!!  يتّصل صديقي ليخبرني أنّ كلّ شيء جاهز وسننطلق غداً عند الظهيرة كما سينضمّ إلينا بعض أصدقائه  .. أقاطعه: "حمص تحت القصف الآن"، يضحك ويقول "بعرف".. يغلق الخط ويتركني في ذهول !

ظهيرة اليوم التالي ذهبتُ إلى منزل صديقي، كان هناك شابّين وفتاة لا أعرفهم.. شابٌ سيرافقنا إلى حمص و الشاب الآخر جمع أسماءنا أرقامنا ووعدنا أن يفتح لنا صفحات "شهداء" على الفيسبوك في حال تأخرنا إلى ما بعد منتصف الليل .. في الطريق إلى خارج دمشق انضم إلينا شاب ثالث 

انطلقنا فتاتين وثلاثة شبّان باتجاه حمص المدينة المنكوبة...