2011/10/18

ابراهيم شيبان بين ألم الفراق وفرحة الوداع

ابراهيم شيبان الطفل ذو التسعة أعوام... لن أجادل سبب وجوده في ذلك المكان، سأعزوه إلى الفوضى العارمة التي تصيب أيّ مكانٍ تتناثر فيه الطلقات بجشع ، لن أجادل نفسيّة القنّاص فالسبب هذه المرّة هو العمى بالتأكيد، قُضي الأمر وسقط الطفل شهيداً .
لم يسقط في بساتين درعا أو شواطئ اللاذقية، إنّما سقط بالقرب منّي وعلى بعد حيّ واحد، عارٌ عليّ ألاّ أخرج لوداعه، ذلك كان ما يشغل تفكيري طوال يوم الجمعة ...
لملمت نفسي يوم السبت وتوجّهت إلى الميدان حيث سنلقي نظرة الوداع على ابراهيم، وفي جامع الدقّاق بالتحديد (أتذكروه؟)
كنت أمشي أنا ورفيق لي ببن الحارات الدمشقيّة وشدّني الحنين إلى صديقي الثائر المعتقل منذ 42 يوم فلطالما احتضنتنا هذه الحارات سوية نهتف بإسقاط النظام نركض للبقاء ونختبئ في الجوامع.
كانت الحارات خالية تماماً إلاّ من بعض المارّة الاعتياديين لم يكن هناك أيّ أثر للأمن أو قوّات حفظ النظام أو حتّى "العواينية". انتابني شعورٌ غريب و هدّد رفيقي بأن يترك التشييع إن لم يكن هناك عدد جيّد من المشيّعين فالشهيد طفل وهو قد سئم التخاذل.
 وصلنا إلى الجامع وإذ بالحارة تعجّ بالنسوة والمسجد من الداخل يعجّ بالمصلين، لم يكن هناك موطئ قدمٍ في صحن الجامع. كان التجهّم والغضب باديين على كلّ الوجوه، حتى أنّ بعض الشبان بدأوا بالتكبير قبل أن يبدأ الإمام صلاة الوداع.
انتهت الصلاة وحُمل ابراهيم على الأكتاف  لحظاتٌ هي حتّى وجدت نفسي بين جمعٍ غفير لا أوّل له ولا آخر،لا تسألوني عن العدد لن أستطيع حصره هو حتماً فوق العشرة آلاف مشيّع، بدأ التشييع بالتكبير وما إن وصلنا الشارع العام حتى استبدلناه بإسقاط النظام وبدأ العرس الدمشقي زغاريدّ وحلقات رقص، أهازيجٌ درعاويّة وألحانٌ قاشوشيّة وفي كل جزء من التشييع قصّة، لم نكن نريد لهذا العرس أن ينتهي، حرصنا جميعاً أن تشبع الحارات الدمشقيّة من ابراهيم وأن نودّعه أفضل توديع فكان لنا رقصةٌ في كل موطئ قدم.
كان الناس على مد النظر من كلّ الأطياف صغاراً كباراً، نساء رجالاً، قيل أن ممثلاً شارك في التشييع أيضاً، وشاهدت بعض اليساريين الذين لم يسبق لي رؤيتهم في الميدان، الكلّ غاضبٌ ساخطٌ ناقم الكلّ ثائر، و الحضور النسائي كان مشرّفاً يومها، حتى أنّ بعض السيدات كنّ قد أحضرن فتياتهنّ اللاتي بعمر ابراهيم لوداعه، وكم قلقت على هؤلاء الفتيات ! لكن لِمَ القلق ؟؟ فأنا وحتّى الآن لم أر عنصر أمن أو حفظ نظام واحد.
تابعنا المسير حتّى ساحة الأشمر كنّا نقترب من المقبرة شيئاً فشيئاً ويزداد بنا التشبّث بابراهيم وكأنّنا لا نريد دفنه، وصلنا إلى المقبرةوهناك فررنا أن يكون القسط الأكبر من التشييع، كان الرجال يحملون ابراهيم ويدورون به إلى أن اقتربوا كثيراً مني فقررت رفع يدي لأحمله معهم، انتبه الرجال إلى يدي الخجولة وأفسحوا لي الطريق حتى أنهم أخفضوا مستوى التابوت ليتسنى لي رفعه معم، صدقوني لم ولن أعرف ماهية هذا الشعور الذي انتابني وأنا أحمله، وصل بعض الشباب واستغلّوا انخفاض التابوت ليغطّوه بالعلم السوري وأكملنا الدوران بالنعش الصغير، ثم سحبنا العلم ووقفنا أمام باب المقبرة نرفرف به على مستوى قريب من الأرض، ولاح لنا من بعيد بعض الشبّيحة الذين نعرفهم جيداً يقفون خلف المقبرة، فما كان منّا إلا أن اهديناهم أغنية " يلعن روحك يا حافظ "!!! 
طلب البعض أن يُدفن ابراهيم ونتّجه إلى الساحة للاعتصام، وأراد البعض الآخر البقاء والاعتصام مع ابراهيم أمام المقبرة، إلى أن انتصر الفريق الأول ودُفن ابراهيم مع الزغاريد والدموع، على سور المقبرة حجر نُقش عليه اسم حافظ الأسد كسره شاب صغير ووضع صورة ابراهيم مكانه.


ونحن عائدون للاعتصام في الساحة القريبة علا هرجٌ ومرجٌ داخل المظاهرة ( يُقال أنّهم وجدوا أحد العواينية) وبنفس اللحظة سمعنا إطلاق رصاص من طرف المقبرة وما هي إلا لحظات حتى مرّ أوّل الجرحى من أمام عيني، كان داخل سياّرة ولم أستطع معرفة مدى اصابته بالتحديد لكنّها كانت كفيلة لأن صرخت برفاقي ارجعوا على المقبرة هي أوّل واحد يا شباب ، وفتاةٌ إلى جانبي صرخت " شهيد شهيد " ، أصيب أحد الشباب بالهلع ورجانا (نحن الفتيات) بالابتعاد، لكنّنا أصرينا على البقاء وجمعنا من استطعنا وركضنا جميعاً عائدين باتجاه المقبرة تحت صوت الرصاص والتكبير، لم نستطع الاقتراب كثيراً وبعيداً على مرمى النظر سقط شاب أمام أعيننا و اشتد إطلاق النار ونحن في نقطة قريبة جداً ، صرخ بنا الشباب ثانية أن ارجعوا فصرخت : " ما اجيت لحتّى أرجع " ، وفي محاولاتنا لإعادة التجمّع والتّظاهر اشتدّ إطلاق الرصاص أكثر فأكثر وبدأ الجرحى بالسقوط في كلّ مكانٍ من حولي، ولا يزال بعض الشباب لوحدهم قريبين جداً جداً من مكان تواجد الشبيحة،
تراجعنا حتى بداية كورنيش الميدان لنرافق الجرحى ، أول الجراح التي استقبلتها هناك شابٌ أصيب في قدمه حمله الشباب وركضوا به باتجاه حارات الكورنيش، عندها قام بعض الرجال بقطع طريق الكورنيش مستخدمين حاويات القمامة لتحويل طريق السير، لأنّ الشبيحة اقتربوا جداً والجرحى يزدادون، بعدها أقبل شابٌ والدمّ يغطّي وجهه ركضت إليه ونال يديّ قسطٌ من دماءه التي كانت تنفر بشدة، كان قد أصيب بحجر في رأسه ويحتاج لعض القطب، جريحٌ اخر فتى لا يتجاوز الخامسة عشر أُصيب بطلقةٍ في باطن ساعده كان خائفاً جداً وسقط مغمى عليه بين قدمي، وعندما لففنا يده وحمله الشباب كان يصرخ : "لا تصوروني لا تصوروني" أدخلوه إلى أحد المباني، والتفتُ لأجد طفلاً لا يتجاوز الحادية عشر يصرخ: "خطفوه للشب اللي مات خطفوه ، كلّون معون مسدسات " ورفع كنزته ليكشف لي عن جرح طفيف في خاصرته، عندها كان قد وصل الشبّيحة إلى الكورنيش وبدأنا جميعاً بالركض للاختباء والتواري ولا يزال المكان خالياً من الأمن وقوّات حفظ النظام.

ونحن خارجون أنا ورفيقي من الميدان مررنا بشارع ميدان أبو حبل. همس لي أحد الأشخاص : " مشان  الله وصلوا صوتنا" ، كلّ تلك الشجاعة والثبات التي غمرتني في الساحة تلاشت وأجهشتُ بالبكاء. بعد قليل وفي الشارع المجاور شاهدت خمس سيارات على الأقل تابعة لقوات الحرس الجمهوري وبالعتاد الكامل تتجه باتجاه المكان الذي كنّا فيه.

خرجنا يومها لنودع ابراهيم فعدنا بدماء ثلاثةٍ آخرين، الكثير من الجرحى  وبعض الدموع، لكن جزءً يسيراً من قلبي كان يتراقص فرحاً، فرحاً بالجموع الغفيرة فرحاً بالثبات والإصرار والشجاعة التي شهدتها الساحة ، فرحا باستيقاظ الشام بعد قيلولة...
 
تابعونا فللقصة دوماً بقيّة .....

هناك 3 تعليقات:

Abo Omar يقول...

الشام ليست في قيلولة ... ولكن هذا المارد الكبير الجاثم على صدرها يمنعها الحراك ... وسيأتي اليوم الذي تنتفض فيه وتزيله ... وسيكون يوماً تشهده الدنيا كلها ...

بحصة يقول...

بانتظار هذا اليوم بفارغ الصبر يا أبو عمر

....فشة خلق..... يقول...

آآآآآآآآآآآآآآىخ حبيبي إبراهيم لقد كنت جميلاً ووديعاً وبريئاً لدرجة أرغمت النظام على قتلك فهو يكره الحب الذي تكنه لوطنك ويخاف من الأمل الذي يبرق في عينيك وتهز كيانه الإبتسامة التي تشرق على شفتيك........فكافأك على برائتك برصاصة قتلت فينا حب الحياة وجعلتنا نحن للحاق بك إلى جنة الخلد...