2011/09/06

بحصة في أزقّة دمشق: خلف الباب الدمشقيّ العتيق

بينما أنا مشغولةٌ بالخوف والبحث عن صديقي الثائر من مخبأي في شرفة الجامع (مصلي النساء) يتراجع الأمن عن اقتحام الجامع بعد كرّ وفرّ وقنابل، ربّما ردعهم تكبير الإمام أو سواعد الشابّ الميدانيّ لا أعلم.
استطعنا وأخيراً الخروج من الجامع بعد ابتعاد الأمن وقوّات حفظ النظام، كنت أعتقد أنّه لازال بوسعنا التجمّع والتظاهر ثانية، لكنّ ذلك كان حلماً تهاوى أمام كتيبة من قوّات حفظ النظام تهجم على الشارع ثانيةً ليركضَ الشاب الميداني وصديقي الثائر يحاولون إدخالنا (الفتيات) إلى الحارات ثانية.
عندها لم يكن هناك وقت لأن نصل إلى الجامع ثانية، لكنّ الميدان لم تخلُ من الملاجئ، فما إن دخلنا الحارات حتى فُتحت أبواب جميع المنازل. كانت أفضليّة دخول المنازل للفتيات فالبيوت ملأى بنساء الحيّ، والرجال خارجاً يدافعون عن  الحارات ويوزّعون المتظاهرين في البيوت والمحلاّت والملاجئ.

دخلتُ أحد هذه الأبواب اطمأنّ صديقي عليّ وخرج، ودّعته وكأنّها المرّة الأخيرة التي أراه فيها. وبين دهشة طفلةٍ صغيرةٍ وأصوات الرصاص تناولني سيّدةٌ دمشقيّةٌ الماء وأنا أسعل بشدّة. أجلس في السّاحة الهوائيّة للمنزل أحوّل نظري بين الأطراف الفقيرة المتعبة، تخرج من بابٍ خشبيٍّ مكسور طفلةٌ لم تتجاوز العام من عمرها تحمل بيدها مسدّساً بلاستيكيّاً وتلفظ بعضاً من الأحرف القليلة التي تعلّمتها " طاخ طاخ " .  تضحك الأم وتحتضن طفلتها وتقول بحرقة: " شايفة ؟؟ كل يوم نحنا على هالحالة ، مو بس الجمعة، بيجو بيهجموا علينا ، رصاص وغاز وتخويف ، هدا غير الشبّيحة اللي طول النهار عم يتمشّوا عنّا بالشارع.  وين بدي أهرب ؟؟ بيت أهلي وبيت حماي كمان بالميدان، كلّو نفس الشي وين ما تروحي شبّيحة ورصاص" . أهزّ رأسي ونسكت.

يُطرق الباب بشدّة فيدخل رجل البيت ويطلب من نساءه الدخول إلى الغرفة المغلقة، يدخل صديقي الثائر مغطّى بالعرق، يقاطع فرحتي بلقائه ليخبرني أنّ الفتاتين اللتين قبّلتهما - واللتين لا أزال أجهل اسميهما -  مفقودتين ولا أحد يعلم إن دخلتا إلى أحد المنازل أو لا، ويطلب منّي محاولة إيجادهما بأي طريقة ويخرج قبل أن أخبره أنّي لا أحمل أرقامهما !
يتركني حائرةً خلف الباب الدمشقيّ العتيق أقلّب نظري من حولي وأرى السيّدة الدمشقيّة يائسة متعبة وأكتشف لماذا يريد الميدان إسقاط النظام بهذه الشدّة.

هنا خلف الباب الدمشقيّ العتيق لا يعرف الجميع برهان غليون ووحدهم الرجال يخرجون للحريّة.
ينادون بالحريّة لشوارعهم من منظومة الأمن والشّبيحة وقوّات حفظ النظام.
ينادون بالحريّة لعائلاتهم من صوت الرصاص وخوف الأمّهات.
ينادون بالحريّة لأنفسهم من الفقر والعجز والتعب والذلّ على مرّ سنين طوال.

هنا خلف الباب الدمشقيّ العتيق لا يعرف الجميع معنى الديمقراطية، لكنّهم يعرفون معنى النخوة والعزة والكرامة والحميّة، يرفضون بشدّة أن يهان أخاً لهم ولو كان في أبعد نقطةٍ عن الباب الدمشقيّ العتيق.

أعلم بعد قليل وبطريقة ما أنّ الفتاتين بخير في أحد المنازل. يهدأ صوت الرصاص ويدخل ثانيةً صديقي الثائر ليصحبني خارجاً مع أصدقائه.
هناك خارج الباب الدمشقيّ العتيق نمشي إلى الساحة الصغيرة، يودّعنا الشابّ الميدانيّ ويبقى هو لينظّف عناء الليلة وزجاج السيارات المتناثر.

يتبع ....

ليست هناك تعليقات: